Admin Admin
عدد المساهمات : 223 تاريخ التسجيل : 23/10/2011
| موضوع: مدينة السراب والحنين للكاتب الناقد الاستاذ/ معاوية نور السبت أكتوبر 29, 2011 9:27 pm | |
| q
امدرمان مدينة السراب والحنين للكاتب الناقد الاستاذ/ معاوية نور "مقال من ستينات القرن الماضي" يدخلها الانسان عن طريق القنطرة الجديدة المقامة على النيل الابيض بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم الخضراء الواسعة ، فيلقى نظرة على ملتقى النيلين في شبه حلم ، ويعجب لهذا الالتقاء الهادىء الطبيعي، على علم منهما وهنا يتلاقيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلا واحدا ، فما ندري انهما كانا نيلين من قبل ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير الى شىء من المزاحمة او عدم الاستقرار مما يلاحظ عادة في التقاء ما بين جهتين مختلفين ، وانما هنالك عناق هادىء لين ، وانبساط ساكن حزين . فاذا فرغ المشاهد من هذا المنظر الذي لابد انه آاخذ بنظره مرغمه على التأمل ، انتقل الى الضفة الاخرى من النيل الابيض فرأى البيوت الصغيرة مثبتة في الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج بعيدا ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطبا تمشي في اتئاد وفتور، ومن ورائها سراب ومن أمامها سراب فكأنما هي تخوض في ماء شفاف . ورأى الى شماله بعض ثكنات الجنود السودايين منبثة هي الاخرى في اماكن متقاربة ، ثم سمع صوت( البوري) يرن حزينا شجيا وسط ذلك السكون الصامت وفي أجور ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشىء من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط ويعجب لذلك المكان ما شأن الترام الكهربائي والقنطرة والاوتميبل الذي يخطف كالبرق بين كل آونة أخرى في ذلك الفضاء السحيق. واذا سار به الترام قليلا في اتجاه النيل رأى أول المدينة المعروف بالموردة ورأى السفن البخارية الآتية من أعالي النيل واقفة على الشاطيء محملة ببضائع تلك الاماكن الجنوبية كما رأى بائعي الذرة امام حبوبهم المرصوصة في شكل أهرام صغيرة وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة اقاعية موسيقية فيها شىء من الملال والترديد الحزين، وفي مثل ذلك المكان كانت تباع الجواري ويباع العبيد في أسواق علنية مفتوحة في عهود مضت، وكان البائعون يتفننون في عرض تلك الجواري بما يلبسونهن من الحلى والزينات . فإذا سار الترام قليلا وجد المشاهد نفسه امام قبة المهدي – ذلك الرجل الذي كان له الشأن الكبير في تاريخ تلك البلاد – ورأى تلك القبة مهدمة مهدودة كما رأى الجامع الواسع الكبير الذي بناه الخليفة عبدالله لكي يصلى فيه المصلون أيام الجمع واللأعياد ، فوقف هنيهة يذكر عهدا مضى بخيره وشره وخالجه شىء من إحساس(( الزمان)) الذي لا يبقى على شىء الا مسخه وتركه باهتا شائخا بعد أن كان كله رونق وشباب. وهنا يذكر الانسان قصة ويذكر تاريخا ويذكر حروبا أقامت عهد المهدية وتخللته وقضت عليه أخيرا. وربما يرى في الشارع القائم بين ذلك الجامع وبين طريق الترام صبيا واضعا رجلا على رجل في حماره القصير وهو يمشي في طريق معاكس للترام ساهم النظر مفتوح الفم ، ينظر الى بعيد من الآفاق ويغمغم بنغمة حزينة ملؤها الشجو والفتور ناسيا نفسه ناظرا في ما حوله نظرة الحالم الناسي. ذلك مشهد لن تخطئه قط في شوارع امدرمان . حركة خفيفة ساهية وغناء كئيب حزين كأنما يستعيد قصة مضت ، ويحكي رواية مجد وبطولة عفى عليها الزمان ودالت عليها الحوادث كما تدول على كل عزيز على النفس حبيب الى الفؤاد ، ولم تبق على شىء سوى الغناء والسهوم الكئيب. وفي ذلك المنظر يتجسم تاريخ أمة و شعب رمت به الطبيعة وسط ذلك الجو المحرق ، وتركت له صفات الصدق والبساطة في عالم لا بساطة فيه ولا صدق ! هو شعب من بقية أمم مجيدة طيبة الاورمة ، إضطره الكسب والمعاش أن يهاجر الى تلك البلاد ذات السهول الواسعة والصحراء المحرقة ، فكان تاريخه مأساة تتبع مأساة وماضية كله الجرم والأثم ، وهؤلاء المهاجرون من أذاقوا لسكان الاصليين الألم وساموهم الخسف والعذاب ، كرت عليهم النوبة من أمم أخرى فكان نصيبهم الآلم والتعب والخوف . واذا كل السكان سواسية امام عوامل الجو ودواعي الملال والسأم ومغريات الشعر والذكر وويلات الفر، واذا بكل تلك العوامل المختلفة تترك طابعا خاصا على نفوسهم وسمات خلقهم وسحنات وجوههم لا يخطئها الناظر العارف ، ولا تقل في الدلالة والشاعرية والحزن الكظيم عن تلك الخصائص التي يراها الانسان على وجه الرجل الروسي الحزين!! وأبلغ ما يدل على تلك النفسية وذلك الخلق الاغاني الشعبية التي يرددها الكل ، من اكبر كبير الى الاطفال في الطرقات والشوارع بل أنني لا اعرف شعبا فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني واعجابه بها . فانت تجد الموظف في مكتبه والتاجر في حانوته والطالب في مدرسته والشحاذ والحمار والعامل والمزارع والطفل الذي لا يتجاوز الثالثة ومن اليهم كلهم يغنونها ويرددونها في كل ساعة وكل مكان ، ويأخذون من نغمها وايقاعها معينا لهم يعينهم على العمل ويلهب احاسيسهم بدواعي النشاط والتيقظ الشاعر ، بل بلغ افتتانهم بها أن الرجل ربما يشترى الاسطوانة الغنائية بعشرين قرشا وهو لا يملك قوت يومه وقل ان يمر الانسان بأي شارع من شوارع امدرمان الا ويعثر على انسان او جماعة تدمدم بتلك الاغاني في شبه غيبوبة حالمة وصوت باك حزين !! والاغاني لا يمكن ان تذيع في أمة مثل هذا الذيوع وتحظى بمثل هذا الانتشار اذا هي لم تعبر عن نفسية تلك الامة أتم تعبير. وأغرب من ذلك وأدعى الى الدهشة أنهم يرقصون على تلك الاغاني الحزينة الكئيبة ولايرون فيها حزنا ولا كآبة لاعتيادهم سماعها وارتباطها الوثيق بحياتهم . فاذا غنى المغني قائلا (( حبيبي خايف تجفاني )) وكان هذا المقطع الاخير الذي يرددونه مثل (( الكورس)) المسرحي وغناها المغني بصوت عال وترديد شجي ناعم طرب الكل واشتد الرقص وأشتعل النظارة حماسا ونسى كل نفسه في موجة طرب راقص ، فيعرف المشاهد أن هذا الشعب قد وطد نفسه على قبول الحياة كما هي في غيره ماثورة وكان له في آلامه الدفينة البعيدة القرار نعم السلوى عن الحاضر ونعم العزاء عن الآلام والمتاعب وتلك هي نعمة الاستسلام والحنين ومظهر الاستهتار بألم طال وتأصل فانقلب فرحا ونعيما . ونفوس االسودانيين واضحة واسعة وضوح الصحراء وسعتها وخلقهم لين صاف لين ماء النيل وصفاءه وفيهم رجولة تكاد تقرب من درجة الوحشية وهم في ساعات الذكرى والعاطفة يجيش الشعور على نبرات كلماتهم وسيماء وجوههم حتى تحسبهم النساء والاطفال ، وتلك ميزات لامكان لها في حساب العصر الحاضر . وان كان لها اكبر الحساب في نفوس الافراد الشاعرين وفي تقدير الفن والشعر والحضارة . من هو معاوية نور؟ لا يعرف الكثير منا من هو الأستاذ معاوية نور الكاتب والناقد السوداني الذي مات شهيدا في ريعان شبابه. انحدر معاوية من عائلة ميسورة الحال عريقة الأصل، كان جده لأمه (محمد عثمان حاج خالد) أميرا من أمراء المهدية وكان ذا مكانة ونفوذ... مات والد معاوية وكان الطفل يخطو في أعتاب ربيعه العاشر ، فكفله أخواله ومن بينهم الدرديري محمد عثمان الذي كان من الرعيل الأول من المتعلمين في السودان ومن الشباب المرموق في ذلك الحين فقد كان أول سوداني يتولى منصبا قضائيا رفيعا و كان أول قاضي محكمة عليا في تاريخ القضاء السوداني، كما كان من الرواد في الحركة الوطنية في السودان حتى اختير بعد الاستقلال عضوا لمجلس الرئاسة. كانت حياة معاوية عادية في أول مدراج حياته .. فقد دخل الخلوة ومنها تعلم مبادىء القراءة والكتابة ثم انتقل الى الابتدائية والوسطى بعد أن اجتاز الامتحان بتفوق ملحوظ وظل بها حتى وقع الاختيار عليه ضمن النابهين للانخراط في كلية غردون وفيها بدأ حبه للبحث والتحصيل.. وتملكه حب الاطلاع بدرجة كبيرة حتى صار يدخر كل درهم يحصل عليه كي يشتري به كتابا .. وفي هذاالوقت بدأت ميوله الأدبية تبدو واضحة جلية وبدأ نجمه في عالم الأدب يتألق سريعا حيث كان يكتب في الصحف السيارة والمجلات السودانية ، وكان رحمه الله يذيل كل كتاباته بتوقيع مستعار وهو( مطالع ) وكان طبيعيا أن يلفت أمر هذا اليافع - الذي كان يناقش القضايا الأدبية في الصحف على هذا النحو من التمكن والتقصي والذي كثيرا ما استشهد بكبار المفكرين مثل اناتول وفرانس وبرنارد شو وأضرابهم- كان من الطبيعي أن يلفت نظر أساتذته الذين حسبوا لأول وهلة أنه يتعجل الظهور والشهرة، فعمدوا لمناقشته في الموضوعات التي كان يكتبها في الصحف فهالهم من تفهم عميق وادراك واع لأفكار أولئك الكتاب والمفكرين الذين طالما أخذ آثارهم بالتحليل والمناقشة. بعد أن أكمل معاوية دراسته الثانوية بكلية غردون في عام 1927 اختير لدراسة الطب، وكانت وقفا على قلة مصطفاة من النابغين من طلبة المرحلة الثانوية وكانت وقتها حلما يراود كل شاب سوداني لما تتيح لخريجيها من مكانة عالية ومركز مرموق وراتب وفير.. ولكن معاوية كان من طينة أخرى، اذ سرعان ما جاهر بعزوفه عن الالتحاق بكلية الطب وما تتيحه أمامه من مستقبل وضاء، ذاكرا أنه يريد مواصلة دراسته الأدبية التي علق بها والتي تملكت شغاف قلبه ووجدانه .. وكما كان متوقعا أحدث عزوفه عن دراسة الطب دويا هائلا في محيط أسرته وكان الجميع يتساءلون عن ماهية هذا " الأدب" الذي يفضله عن الطب والمستقبل العريض، حتى حسبوه معتوها أصابه مس من ذهول ، وتحت ضغط عنيف من أهله واساتذته وزملائه انخرط معاوية في كلية الطب بجسمه فقط.. فقد كانت روحه تهوم في آفاق بعيدة كل البعد عن ما يتصل بالدراسات الطبية ، وان ذهبنا الى القول كان معاوية أول سوداني يتصل اتصالا حقيقيا بروح الغرب.. لقد وجد معاوية هذا الشاب العربي الافريقي الذي نشأ في بيئة جاهلة لم تأخذ الا اليسيرمن أسباب المعرفة ، وجد معاوية في الادب الانجليزي ضالته المنشودة ووطنه الذي يروي ظمأ روحه ووجدانه برغم البون الشاسع بين الوطن الروحي وواقع وطنه الذي يعيش فيه.. بين دنياه البعيدة غير المنظورة التي كان دائم التطلع اليها بشغف وطموح ، وبين دنياه التي يعيشها كواقع لا مهرب منه ولا مفر ( بلده وعائلته وتقاليده ) . الى الذين لم يسمعوا عن الاديب الفذ السودانى : معاوية محمد نور(1909 - 1941)
q | |
|